فصل: تفسير الآيات (83- 84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (83- 84):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
المعنى: {واذكروا إذ أخذنا}، وقال مكي رحمه الله: هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم {لا تعبدون}، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يعبدون} بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود {لا تعبدوا} على النهي. قال سيبويه: {لا تعبدون} متعلق لقسم، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون، وقالت طائفة: تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، {فلا تعبدون} على هذا معمول لحرف النصب، وحكي عن قطرب أن {لا تعبدون إلا الله} في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة، وقال قوم {لا تعبدون إلا الله} نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا.
والباء في قوله: {وبالوالدين} قيل هي متعلقة بالميثاق عطفاً على الباء المقدرة أولاً على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا، وقيل: تتعلق بقوله و{إحساناً} والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحساناً بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وهذا قول حسن، وقدم اللفظ {وبالوالدين} تهمماً فهو نحو قوله تعالى {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، {وذي القربى} عطف على الوالدين، و{القربى} بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم، {واليتامى}: جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: «لا يتم بعد بلوغ»، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم، {والمساكين}: جمع مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون وقد قيل: إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً}، أمر عطف على ما تضمنه {لا تعبدون إلا الله} وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله: {وبالوالدين}، وقرأ حمزة والكسائي {حَسَناً} بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره: بل المعنى في القراءتين وقولوا قولاً حسناً بفتح السين أو قولاً ذا {حُسن} بضم الحاء، وقرأ قوم {حسنى} مثل فعلى، ورده سيبويه لأنه أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح {حُسُناً} بضم الحاء والسين، وقال ابن عباس: معنى الكلام قولوا لهم لا إلا إلا الله ومروهم بها، وقال ابن جريج: قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري: معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال أبو العالية: معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى {وقولوا للناس حسناً}: منسوخ بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.
وقوله تعالى: {ثم توليتم} الآية خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، و{ثم} مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من {توليتم} لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، و{قليلاً} نصب على الاستثناء قال سيبويه: المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به، قال المبرد: هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديماً من أسلافهم وحديثاً كابن سلام وغيره، والقلة على هذا هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، وقرأ قوم {إلا قليلٌ} برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على بدل قليل من الضمير في {توليتم}، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن {توليتم} معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل، والسفك صب الدم وسرد الكلام، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة {لا تسفُكون} بضم الفاء، وقرأ أبو نهيك {تُسفِّكون} بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب {لا تسفكون} كما تقدم في {لا تعبدون}، و{دماءكم} جمع دم، وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل أصله دمْي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.
وقوله تعالى {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول، وقيل {لا تسفكون دماءكم} أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات.
وقوله تعالى {ثم أقررتم} أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً.
وقوله: {وأنتم تشهدون} قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم.

.تفسير الآية رقم (85):

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
{هؤلاء} دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل رداً إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول هذا أقبل، وقيل تقديره أعني هؤلاء، وقيل {هؤلاء} بمعنى الذين، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون، ف {تقتلون} صلة {لهؤلاء}، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري.
عدسْ ما لعبّاد عليك إمارة ** نجوت وهذا تحملين طليق

وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه: {هؤلاء} رفع بالابتداء و{أنتم} خبر مقدم، و{تقتلون} حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بالنطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد.
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضاً وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعاً لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {تُقتِّلون} بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة، والديار مباني الإقامة، وقال الخليل: محلة القوم دارهم، وقرأ حمزة وعاصم والسكائي {تظاهرون} بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة {تظَّاهرون} بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة {تُظهِرون} بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة {تَظَّهَرَّون} بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي عمرو، ومعنى ذلك على كل قراءة تتعاونون، وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهريْن يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي، والمعنى بمكتسبات الإثم، {والعدوان} تجاوز الحدود والظلم، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، وقرأ حمزة {أسرى تفدوهم}، وقرأ نافع وعاصم والكسائي {أسارى تفادوهم}، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير {أسارى تفدوهم}، وقرأ قوم {أسرى تفادوهم}. و{أسارى} جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقاً، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلاً بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل في فعلان أن يجمع على فَعالى بفتح الفاء وفُعالى بضمها كسكران وكسلان وسُكَارى وكُسَالى، قال سيبويه: فقالوا في جمع كسلان كسْلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا {أسارى} شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرهاً كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.
و{تفَادوهم} معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيداً بمال وفاديته بمال، وقال قوم: هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أبو علي: كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضاً إما أسيراً وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف.
وقوله تعالى: {وهو محرم} قيل في {هو} إنه ضمير الأمر، تقديره والأمر محرم عليكم، و{إخراجهم} في هذا القول بدل من {هو}، وقيل {هو} فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و{محرم} على هذا ابتداء، و{إخراجهم} خبره، وقيل هو الضمير المقدر في {محرم} قدم وأظهر، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضاً وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم.
وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه، فقال له ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
ثم توعدهم عز وجل: والخزي: الفضيحة والعقوبة، يقال: خزي الرجل يخرى خزياً إذا ذل من الفضحية، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا. واختلف ما المراد بالخزي هاهنا فقيل: القصاص فيمن قتل، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل قتل قريظة، وإجلاء النضير، وقيل: الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو. والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات. وأشد العذاب الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن هرمز {تردون} بتاء.
وقوله تعالى: {وما الله بغافل} الآية، فرأ نافع وابن كثير {يعملون} بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد: وبما يجري مجراه.

.تفسير الآيات (86- 88):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا، وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على ان يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة، و{الكتاب} التوراة، ونصبه على المفعول الثاني ل {آتينا}، {وقفينا} مأخوذ من القفا، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع. وهذه الأية مثل قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا} [المؤمنون: 144]، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر {بالرسْل} ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم، و{البينات} الحجج التي أعطاها الله عيسى، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير، وقيل هي الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك، و{أيدناه} معناه قويناه، والأيد القوة، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد {آيدناه}. وقرأ ابن كثير ومجاهد {روح القدْس} بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة {بروح القدوس} بواو، وقال ابن عباس رضي الله عنه روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى، وقال ابن زيد: هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة: روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: اهج قريشاً وروح القدس معك ومرة قال له وجبريل معك، وقال الربيع ومجاهد: {القدس} اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل {القدس} الطهارة، وقيل {القدس} البركة.
وكلما ظرف، والعامل فيه {استكبرتم}، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه التوبيخ والتقرير، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل.
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي {تهوى} ضمير من صلة ما لطول اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، و{استكبرتم} من الكبر، {وفريقاً} مفعول مقدم.
وقرأ جمهور القراء {غلْف} بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل {حمْر} و{صفْر}، والمعنى قلوبنا عليها غَلَف وغشاوات فهي لا تفقه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: المعنى عليها طابع، وقالت طائفة: غلْف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن {غلّف} بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {بل لعنهم الله بكفرهم}، و{بل} في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد، و{قليلاً} نعت لمصدر محذوف تقديره فإيماناً قليلاً ما يؤمنون، والضمير في {يؤمنون} لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان: إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، وإما لأن وقت إيمانهم عندما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيماناً قليلاً، وعلى الذي قبله فوقتاً قليلاً، وعلى الذي قبله فعدداً من الرجال قليلاً، و{ما} في قوله: {فقليلاً ما يؤمنون} زائدة مؤكدة، و{قليلاً} نصب ب {يؤمنون}.